بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2024

حكاية خرافية: مثل الرجل والتنين -عبد الله بن المقفع


















مثل الرجل والتنين



فالتمست للإنسان مثلا فمثله مثل رجل نجا من خوف فيل هائج الى بئر فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على سمائها فوقعت رجلاه على شيئ فى طي البئر . فإذا حيات أربع قد أخرجن رؤوسهن من أحجارهن. ثم نظر فإذا فى قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه، فرفع بصره الى الغصنين فإذا فى أصلهمها جرذان اسود و أبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو فى النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذ ابصر قريبا منه كوارة فيها عسل نحل، فذاق العسل، فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكره فى شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يذكر أن رجليه على حيات أربع لا يدرى متى يقع عليهن، ولم يذكر أن الجرذين دائبان فى قطع الغصنين، ومتى انقطعا وقع على التنين ,فلم يزل لاهيا غافلا مشغولا بتلك الحلاوة حتى سقط فى فم التنين فهلك.
فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشروراً ومخافات وعاهات، وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التى فى البدن: فإنها متى هاجت أو احدها كانت كحمة الأفاعى والسم المميت، وشبهت بالغصنين الذى لابد من انقطاعه، وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض الليل والنهار اللذين هما دائبان فى إفناء الأجل. وشبهت بالتنين المصير الذى لا بد منه، وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التى ينال منها الإنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس ويتشاغل عن نفسه ويلهو عن شأنه ويصد عن سبيل قصده. فحينئذ صار أمري إلى الرضا بحالي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي، لعلي أصادف باقي أيامي زماناً أصيب فيه دليلاً على هُداي، وسلطانا على نفسي، وقواما لأمري. فاقمت على هذه الحال، وانتسخت كتبا كثيرة، وانصرفت من بلاد الهند وقد نسختُ هذا الكتاب.
 عبد الله بن المقفع: كليلة ودمنة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط 1 ، 2006، باب برزويه المتطبب، 2، ص.ص: 55-56.






 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق